الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
وهي مكية باتفاق. وهي أربع وأربعون آية. {سأل سائل بعذاب واقع، للكافرين ليس له دافع، من الله ذي المعارج، تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} قوله تعالى{سأل سائل بعذاب واقع} قرأ نافع وابن عامر {سال سايل} بغير همزة. الباقون بالهمز. فمن همز فهو من السؤال. والباء يجوز أن تكون زائدة، ويجوز أن تكون بمعنى عن. والسؤال بمعنى الدعاء؛ أي دعا داع بعذاب؛ عن ابن عباس وغيره. يقال: دعا على فلان بالويل، ودعا عليه بالعذاب. ويقال: دعوت زيدا؛ أي ألتمست إحضاره. أي التمس ملتمس عذابا للكافرين؛ وهو واقع بهم لا محالة يوم القيامة. وعلى هذا فالباء زائدة؛ كقوله تعالى أي عن النساء. ويقال: خرجنا نسأل عن فلان وبفلان. فالمعنى سألوا بمن يقع العذاب ولمن يكون فقال الله{للكافرين}. قال أبو علي وغيره: وإذا كان من السؤال فأصله أن يتعدى إلى مفعولين ويجوز الاقتصار على أحدهما. وإذا اقتصر على أحدهما جاز أن يتعدى إليه بحرف جر؛ فيكون التقدير سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم أو المسلمين بعذاب أو عن عذاب. ومن قرأ بغير همز فله وجهان: أحدهما: أنه لغة في السؤال وهي لغة قريش؛ تقول العرب: سال يسال؛ مثل نال ينال وخاف يخاف. والثاني: أن يكون من السيلان؛ ويؤيده قراءة ابن عباس {سال سيل}. قال عبدالرحمن بن زيد: سال واد من أودية جهنم يقال له: سائل؛ وقول زيد بن ثابت. قال الثعلبي: والأول أحسن؛ كقول الأعشى في تخفيف الهمزة: وفي الصحاح: قال الأخفش: يقال خرجنا نسأل عن فلان وبفلان. وقد تخفف همزته فيقال: سال يسال. وقال: المرهق: الذي أدرك ليقتل. والأصدة بالضم: قميص صغير يلبس تحت الثوب. المهدوي: من قرأ {سال} جاز أن يكون خفف الهمزة بإبدالها ألفا، وهو البدل على غير قياس. وجاز أن تكون الألف منقلبة عن واو على لغة من قال: سلت أسال؛ كخفت أخاف. النحاس: حكى سيبويه سلت أسال؛ مثل خفت أخاف؛ بمعنى سألت. وأنشد: ويقال: هما يتساولان. المهدوي: وجاز أن تكون مبدلة من ياء، من سال يسيل. ويكون سايل واديا في جهنم؛ فهمزة سايل على القول الأول أصلية، وعلى الثاني بدل من واو، وعلى الثالث بدل من ياء. القشيري: وسائل مهموز؛ لأنه إن كان من سأل بالهمز فهو مهموز، وإن كان من غير الهمز كان مهموزا أيضا؛ نحو قائل وخائف؛ لأن العين اعتل في الفعل واعتل في اسم الفاعل أيضا. ولم يكن الاعتلال بالحذف لخوف الالتباس، فكان بالقلب إلى الهمزة، ولك تخفيف الهمزة حتى تكون بين بين. {واقع} أي يقع بالكفار بين أنه من الله ذي المعارج. وقال الحسن: أنزل الله تعالى{سأل سائل بعذاب واقع} فقال لمن هو؟ فقال للكافرين؛ فاللام في الكافرين متعلقة {بواقع}. وقال الفراء: التقدير بعذاب للكافرين واقع؛ فالواقع من نعت العذاب واللام دخلت للعذاب لا للواقع، أي هذا العذاب للكافرين في الآخرة لا يدفعه عنهم أحد. وقيل إن اللام بمعنى على، والمعنى: واقع على الكافرين. وروي أنها في قراءة أبي كذلك. وقيل: بمعنى عن؛ أي ليس له دافع عن الكافرين من الله. أي ذلك العذاب من الله ذي المعارج أي ذي العلو والدرجات الفواضل والنعم؛ قاله ابن عباس وقتادة فالمعارج مراتب إنعامه على الخلق وقيل ذي العظمة والعلاء وقال مجاهد: هي معارج السماء. وقيل: هي معارج الملائكة؛ لأن الملائكة تعرج إلى السماء فوصف نفسه بذلك. وقيل: المعارج الغرف؛ أي إنه ذو الغرف، أي جعل لأوليائه في الجنة غرفا. وقرأ عبدالله {ذي المعاريج} بالياء. يقال: معرج ومعراج ومعارج ومعاريج؛ مثل مفتاح ومفاتيح. والمعارج الدرجات؛ ومنه قوله تعالى{تعرج الملائكة والروح} أي تصعد في المعارج التي جعلها الله لهم. وقرأ ابن مسعود وأصحابه والسلمي والكسائي {يعرج} بالياء على إرادة الجمع؛ ولقوله: اذكروا الملائكة ولا تؤنثوهم. وقرأ الباقون بالتاء على إرادة الجماعة. {والروح} جبريل عليه السلام؛ قال ابن عباس. دليله قوله تعالى قلت: وهذا القول أحسن ما قيل في الآية إن شاء الله، بدليل ما وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ والمعنى: سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له من الله دافع، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه. وهذا القول هو معنى ما أخترناه، والموفق الإله. {فاصبر صبرا جميلا، إنهم يرونه بعيدا، ونراه قريبا} قوله تعالى{فاصبر صبرا جميلا} أي على أذى قومك. والصبر الجميل: هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله. وقيل: هو أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدرى من هو. والمعنى متقارب. وقال ابن زيد: هي منسوخة بآية السيف. {إنهم يرونه بعيدا} يريد أهل مكة يرون العذاب بالنار بعيدا؛ أي غير كائن. {ونراه قريبا} لأن ما هو آت فهو قريب. وقال الأعمش: يرون البعث بعيدا لأنهم لا يؤمنون به كأنهم يستبعدونه على جهة الإحالة. كما تقول لمن تناظره: هذا بعيد لا يكون وقيل: أي يرون هذا اليوم بعيدا {ونراه} أي نعلمه؛ لأن الرؤية إنما تتعلق بالموجود. وهو كقولك: الشافعي يرى في هذه المسألة كذا وكذا. {يوم تكون السماء كالمهل، وتكون الجبال كالعهن، ولا يسأل حميم حميما} قوله تعالى{يوم تكون السماء كالمهل} العامل في {يوم} {واقع}؛ تقديره يقع بهم العذاب يوم. وقيل{نراه} أو {يبصرونهم} أو يكون بدلا من قريب. والمهل: دردي الزيت وعكره؛ في قول ابن عباس وغيره. وقال ابن مسعود: ما أذيب من الرصاص والنحاس والفضة. وقال مجاهد{كالمهل} كقيح من دم وصديد. وقد مضى في سورة الدخان ، و الكهف القول فيه. {وتكون الجبال كالعهن} أي كالصوف المصبوغ. ولا يقال للصوف عهن إلا أن يكون مصبوغا. وقال الحسن{وتكون الجبال كالعهن} وهو الصوف الأحمر، وهو أضعف الصوف. ومنه قول زهير: الفتات القطع. والعهن الصوف الأحمر؛ واحده عهنة. وقيل: العهن الصوف ذو الألوان؛ فشبه الجبال به في تلونها ألوانا. والمعنى: أنها تلين بعد الشدة، وتتفرق بعد الاجتماع. وقيل: أول ما تتغير الجبال تصير رملا مهيلا، ثم عهنا منفوشا، ثم هباء منبثا. {ولا يسأل حميم حميما} أي عن شأنه لشغل كل إنسان بنفسه، قال قتادة. كما قال تعالى {يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التي تؤويه، ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه} قوله تعالى{يبصرونهم} أي يرونهم. وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه من الجن والإنس. فيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته وعشيرته ولا يسأله ولا يكلمه؛ لاشتغالهم بأنفسهم. وقال ابن عباس: يتعارفون ساعة ثم لا يتعارفون بعد تلك الساعة. وفي بعض الأخبار: أن أهل القيامة يفرون من المعارف مخافة المظالم. وقال ابن عباس أيضا{يبصرونهم} يبصر بعضهم بعضا فيتعارفون ثم يفر بعضهم من بعض. فالضمير في {يبصرونهم} على هذا للكفار، والميم للأقرباء. وقال مجاهد: المعنى يبصر الله المؤمنين الكفار في يوم القيامة؛ فالضمير في يبصرونهم{ للمؤمنين، والهاء والميم للكفار. ابن زيد: المعنى يبصر الله الكفار في النار الذين أضلوهم في الدنيا؛ فالضمير في {يبصرونهم} للتابعين، والهاء والميم للمتبوعين. وقيل: إنه يبصر المظلوم ظالمه والمقتول قاتله. وقيل{يبصرونهم} يرجع إلى الملائكة؛ أي يعرفون أحوال الناس فيسوقون كل فريق إلى ما يليق بهم. وتم الكلام عند قوله{يبصرونهم}. ثم قال{يود المجرم} أي يتمنى الكافر. {لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه} يعني من عذاب جهنم بأعز من كان عليه في الدنيا من أقاربه فلا يقدر. ثم ذكرهم فقال{ببنيه، وصاحبته} زوجته {وأخيه، وفصيلته } أي عشيرته. {التي تؤويه} تنصره؛ قاله مجاهد وابن زيد. وقال مالك: أمه التي تربيه. حكاه الماوردي ورواه عنه أشهب. وقال أبو عبيدة: الفصيلة دون القبيلة. وقال ثعلب: هم آباؤه الأدنون. وقال المبرد: الفصيلة القطعة من أعضاء الجسد، وهي دون القبيلة. وسميت عترة الرجل فصيلته تشبيها بالبعض منه. وقد مضى في سورة الحجرات القول في القبيلة وغيرها. وهنا مسألة، وهي: إذا حبس على فصيلته أو أوصى لها فمن أدعى العموم حمله على العشيرة، ومن أدعى الخصوص حمله على الآباء؛ الأدنى فالأدنى. والأول أكثر في النطق. والله أعلم. ومعنى{تؤويه} تضمه وتؤمنه من خوف إن كان به. {ومن في الأرض جميعا} أي ويود لو فدي بهم لافتدى {ثم ينجيه} أي يخلصه ذلك الفداء. فلا بد من هذا الإضمار، كقوله {كلا إنها لظى، نزاعة للشوى، تدعوا من أدبر وتولى، وجمع فأوعى} قوله تعالى{كلا} تقدم القول في {كلا} وأنها تكون بمعنى حقا، وبمعنى لا. وهي هنا تحتمل الأمرين؛ فإذا كانت بمعنى حقا كان تمام الكلام {ينجيه}. وإذا كانت بمعنى لا كان تمام الكلام عليها؛ أي ليس ينجيه من عذاب الله الافتداء ثم قال{إنها لظى} أي هي جهنم؛ أي تتلظى نيرانها؛ كقوله تعالى وقال آخر: القتير: الشيب. وفي الصحاح والشوى: جمع شواة وهي جلدة الرأس . والشوى: اليدان والرجلان والرأس من الآدميين، وكل ما ليس مقتلا. يقال: رماه فأشواه إذا لم يصب المقتل. قال الهذلي: يقول: إن من القول كلمة لا تشوي ولكن تقتل. قال الأعشى: قال أبو عبيد: أنشدها أبو الخطاب الأخفش أبا عمرو بن العلاء فقال له صحفت! إنما هو سراته؛ أي نواحيه فسكت أبو الخطاب ثم قال لنا: بل هو صحف، إنما هو شواته . وشوى الفرس: قوائمه؛ لأنه يقال: عبل الشوى، ولا يكون هذا للرأس؛ لأنهم وصفوا الخيل بإسالة الخدين وعتق الوجه وهو رقته. والشوى: رذال المال. والشوى: هو الشيء الهين اليسير. وقال ثابت البناني والحسن{نزاعة للشوى} أي لمكارم وجهه. أبو العالية: لمحاسن وجهه. قتادة: لمكارم خلقته وأطرافه. وقال الضحاك: تفري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئا. وقال الكسائي: هي المفاصل. وقال بعض الأئمة: هي القوائم والجلود. قال امرؤ القيس: وقال أبو صالح: أطراف اليدين والرجلين. قال الشاعر: يعني أطرافها. وقال الحسن أيضا: الشوى الهام. {تدعو من أدبر وتولى} أي تدعو لظى من أدبر في الدنيا عن طاعة الله وتولى عن الإيمان. ودعاؤها أن تقول: إلي يا مشرك، إلي يا كافر. وقال ابن عباس: تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح: إلي يا كافر، إلي يا منافق؛ ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب. وقال ثعلب{تدعو} أي تهلك. تقول العرب: دعاك الله؛ أي أهلكك الله. وقال الخليل: إنه ليس كالدعاء {تعالوا} ولكن دعوتها إياهم تمكنها من تعذيبهم. وقيل: الداعي خزنة جهنم؛ أضيف دعاؤهم إليها. وقيل هو ضرب مثل؛ أي إن مصير من أدبر وتولى إليها؛ فكأنها الداعية لهم. ومثله قول الشاعر: العضيض الأبكم: الذباب. وهو لا يدعو وإنما طنينه نبه عليه فدعا إليه. قلت: القول الأول هو الحقيقة؛ حسب ما تقدم بيانه بآي القرآن والأخبار الصحيحة. القشيري: ودعاء لظى بخلق الحياة فيها حين تدعو، وخوارق العادة غدا كثيرة. {وجمع فأوعى} أي جمع المال فجعله في وعائه ومنع منه حق الله تعالى؛ فكان جموعا منوعا. قال الحكم: كان عبدالله بن عكيم لا يربط كيسه ويقول سمعت الله يقول{وجمع فأوعى}. {إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا} قوله تعالى{إن الإنسان خلق هلوعا} يعني الكافر؛ عن الضحاك. والهلع في اللغة: أشد الحرص وأسوأ الجزع وأفحشه. وكذلك قال قتادة ومجاهد وغيرهما. وقد هلع بالكسر يهلع فهو هليع وهلوع؛ على التكثير. والمعنى أنه لا يصبر على خير ولا شر حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي. عكرمة: هو الضجور. الضحاك: هو الذي لا يشبع. والمنوع: هو الذي إذا أصاب المال منع منه حق الله تعالى. وقال ابن كيسان: خلق الله الإنسان يحب ما يسره ويرضيه، ويهرب مما يكرهه ويسخطه، ثم تعبده الله بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكره. وقال أبو عبيدة: الهلوع هو الذي إذا مسه الخير لم يشكر، وإذا مسه الضر لم يصبر؛ قاله ثعلب. وقال ثعلب أيضا: قد فسر الله الهلوع، وهو الذي إذا ناله الشر أظهر شدة الجزع، وإذا ناله الخير بخل به ومنعه الناس. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الذعلب والذعلبة الناقة السريعة. و{جزوعا} و{منوعا} نعتان لهلوع. على أن ينوي بهما التقديم قبل {إذا}. وقيل: هو خبر كان مضمرة. {إلا المصلين، الذين هم على صلاتهم دائمون، والذين في أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم، والذين يصدقون بيوم الدين، والذين هم من عذاب ربهم مشفقون، إن عذاب ربهم غير مأمون} قوله تعالى{إلا المصلين} دل على أن ما قبله في الكفار؛ فالإنسان اسم جنس بدليل الاستثناء الذي يعقبه كقوله تعالى {والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون، والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم بشهاداتهم قائمون، والذين هم على صلاتهم يحافظون، أولئك في جنات مكرمون} قوله تعالى{والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} تقدم القول فيه. {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} تقدم. {والذين هم بشهاداتهم قائمون} على من كانت عليه من قريب أو بعيد، يقومون بها عند الحاكم ولا يكتمونها ولا يغيرونها. وقد مضى القول في الشهادة وأحكامها في سورة البقرة . وقال ابن عباس{بشهاداتهم} أن الله واحد لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. وقرئ {لأمانتهم} على التوحيد. وهي قراءة ابن كثير وابن محيصن. فالأمانة اسم جنس، فيدخل فيها أمانات الدين، فإن الشرائع أمانات ائتمن الله عليها عباده. ويدخل فيها أمانات الناس من الودائع؛ وقد مضى هذا كله مستوفى في سورة النساء . وقرأ عباس الدوري عن أبي عمرو ويعقوب {بشهاداتهم} جمعا. الباقون {بشهادتهم} على التوحيد، لأنها تؤدي عن الجمع. والمصدر قد يفرد وإن أضيف إلى جمع، كقوله تعالى قوله تعالى{والذين هم على صلاتهم يحافظون} قال قتادة: على وضوئها وركوعها وسجودها. وقال ابن جريج: التطوع. وقد مضى في سورة المؤمنون . فالدوام خلاف المحافظة. فدوامهم عليها أن يحافظوا على أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل، ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها، ويقيموا أركانها، ويكملوها بسننها وآدابها، ويجفظوها من الإحباط باقتراب المأثم. فالدوام يرجع إلى نفس الصلوات والمحافظة إلى أحوالها. {أولئك في جنات مكرمون} أي أكرمهم الله فيها بأنواع الكرامات. {فمال الذين كفروا قبلك مهطعين، عن اليمين وعن الشمال عزين، أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم، كلا إنا خلقناهم مما يعلمون} قوله تعالى{فمال الذين كفروا قبلك مهطعين} قال الأخفش: مسرعين. قال: والمعنى: ما بالهم يسرعون إليك ويجلسون حواليك ولا يعملون بما تأمرهم. وقيل: أي ما بالهم مسرعين في التكذيب لك. وقيل: أي ما بال الذين كفروا يسرعون إلى السماع منك ليعيبوك ويستهزؤوا بك. وقال عطية: مهطعين: معرضين. الكلبي: ناظرين إليك تعجبا. وقال قتادة: عامدين. والمعنى متقارب؛ أي ما بالهم مسرعين عليك، مادين أعناقهم، مدمني النظر إليك. وذلك من نظر العدو. وهو منصوب على الحال. نزلت في جمع من المنافقين المستهزئين، كانوا يحضرونه - عليه السلام - ولا يؤمنون به. و{قبلك} أي نحوك. {عن اليمين وعن الشمال عزين} أي عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وشماله حلقا حلقا وجماعات. والعزين: جماعات في تفرقة، قاله أبو عبيدة. ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج على أصحابه فرأهم حلقا فقال: أي متفرقين. وقال الراعي: أي متفرقين. وقال آخر: أي متفرقين. وقال آخر: وقال الكميت: وقال عنترة: وواحد عزين عزة، جمع بالواو والنون ليكون ذلك عوضا مما حذف منها. وأصلها عزهة، فاعتلت كما اعتلت سنة فيمن جعل أصلها سنهة. وقيل: أصلها عزوة، من عزاه يعزوه إذا أضافه إلى غيره. فكل واحد من الجماعات مضافة إلى الأخرى، والمحذوف منها الواو. وفي الصحاح والعزة الفرقة من الناس، والهاء عوض من الياء، والجمع عزى - على فعل - وعزون وعزون أيضا بالضم، ولم يقولوا عزات كما قالوا ثبات . قال الأصمعي: يقال في الدار عزون، أي أصناف من الناس. و{عن اليمين وعن الشمال} متعلق {بمهطعين} ويجوز أن يتعلق {بعزين} على حد قولك: أخذته عن زيد. {أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم} قال المفسرون: كان المشركون يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه فيكذبونه ويكذبون عليه، ويستهزئون بأصحابه ويقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنها قبلهم، ولئن أعطوا منها شيئا لنعطين أكثر منه؛ فنزلت{أيطعم} الآية. وقيل: كان المستهزئون خمسة أرهط. وقرأ الحسن طلحة بن مصرف والأعرج {أن يدخل} بفتح الياء وضم الخاء مسمى الفاعل. ورواه المفضل عن عاصم. الباقون {أن يدخل} على الفعل المجهول. {كلا} لا يدخلونها. {إنا خلقناهم مما يعلمون} ثم ابتدأ فقال{إنا خلقناهم مما يعلمون} أي إنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة؛ كما خلق سائر جنسهم. فليس لهم فضل يستوجبون به الجنة، وإنما تستوجب بالإيمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى. وقيل: كانوا يستهزئون بفقراء المسلمين ويتكبرون عليهم. فقال{إنا خلقناهم مما يعلمون} من القذر، فلا يليق بهم هذا التكبر. وقال قتادة في هذه الآية: إنما خلقت يا ابن آدم من قذر فاتق الله. وروي أن مطرف بن عبدالله بن الشخير رأى المهلب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خز وجبة خز فقال له: يا عبدالله، ما هذه المشية التي يبغضها الله؟ فقال له: أتعرفني؟ قال نعم، أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة. فمضى المهلب وترك مشيته. نظم الكلام محمود الوراق فقال: وهو غدا بعد حسن صورته يصير في اللحد جيفة قذره
وهو على تيهه ونخوته ما بين ثوبيه يحمل العذره وقال آخر: أنف يسيل وأذن ريحها سَهِك والعين مُرْمَصة والثغر ملهوب
يا ابن التراب ومأكول التراب غدا قصر فإنك مأكول ومشروب وقيل: معناه من أجل ما يعلمون؛ وهو الأمر والنهي والثواب والعقاب. كقول الشاعر وهو الأعشى: أي من أجل ليلى. {فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون، على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين} قوله تعالى{فلا أقسم} أي أقسم. و{لا} صلة. {برب المشارق والمغارب} هي مشارق الشمس ومغاربها. وقد مضى الكلام فيها. وقرأ أبو حيوة وابن محيصن وحميد {برب المشرق والمغرب} على التوحيد. {إنا لقادرون. على أن نبدل خيرا منهم} يقول: نقدر على إهلاكهم والذهاب بهم والمجيء بخير منهم في الفضل والطوع والمال. {وما نحن بمسبوقين} أي لا يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر نريده. {فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون} أي اتركهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم؛ على جهة الوعيد. واشتغل أنت بما أمرت به ولا يعظمن عليك شركهم؛ فإن لهم يوما يلقون فيه ما وعدوا. وقرأ ابن محيصن ومجاهد وحميد {حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون}. وهذه الآية منسوخة بآية السيف. {يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون} قوله تعالى{يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب} {يوم} بدل من {يومهم} الذي قبله، وقراءة العامة {يخرجون} بفتح الياء وضم الراء على أنه مسمى الفاعل. وقرأ السلمي والمغيرة والأعشى عن عاصم {يخرجون} بضم الياء وفتح الراء على الفعل المجهول. والأجداث: القبور؛ وأحدها جدث. وقد مضى في سورة يس . {سراعا} حين يسمعون الصيحة الآخرة إلى إجابة الداعي؛ وهو نصب على الحال {كأنهم إلى نصب يوفضون} قراءة العامة بفتح النون وجزم الصاد. وقرأ ابن عامر وحفص بضم النون والصاد. وقرأ عمرو بن ميمون وأبو رجاء وغيرهما بضم النون وإسكان الصاد. والنصب والنصب لغتان مثل الضعف، والضعف. الجوهري: والنصب ما نصب فعبد من دون الله، وكذلك النصب بالضم؛ وقد يحرك. قال الأعشى: أراد {فأعبدن} فوقف بالألف؛ كما تقول: رأيت زيدا. والجمع الأنصاب. وقوله{وذا النصب} بمعنى إياك وذا النصب. والنصب الشر والبلاء؛ ومنه قوله تعالى قوله تعالى{يوفضون} يسرعون والإيفاض الإسراع. قال الشاعر: عبقر: موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن. قال لبيد: وقال الليث: وفضت الإبل تفض وفضا؛ وأوفضها صاحبها. فالإيفاض متعد، والذي في الآية لازم. يقال: وفض وأوفض واستوفض بمعنى أسرع. {خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون} قوله تعالى{خاشعة أبصارهم} أي ذليلة خاضعة، لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله. {ترهقهم ذلة} أي يغشاهم الهوان. قال قتادة: هو سواد الوجوه. والرهق: الغشيان؛ ومنه غلام مراهق إذا غشي الاحتلام. رهقه بالكسر يرهقه رهقا أي غشيه؛ ومنه قوله تعالى
|